بعد أنْ نجّى الله تعالى نبيه نوحاً ومن آمن معه في السفينة، وأغرق كل ما سواها على الأرض استمرّت عبادة الله وحده فترة طويلة من الزمن، حتى تعاقبت الأجيال وفسدت الأحوال وظهر الشرك مؤخّراً على يد قوم مالوا عن الحق، وأشركوا بالله في العبادة.
سكن هؤلاء القوم في مدينة يقال لها “إرم ذات العماد”، هذه المدينة ذُكرت في القرآن الكريم في معرض حديث الله عن قوم عاد، لكن القرآن أشار إليها إشارة عابرة فحسب، فأين تقع؟ ومن سكنها؟ وماذا حلّ بها اليوم؟
ارم ذات العماد أين تقع ومن سكانها ومن النبي الذي أرسل إليهم؟
أين تقع مدينة ارم ذات العماد
تقع جنوب الجزيرة العربية، في منطقة حضرموت، قريبة من عُمان، في منطقة تسمى “الأحقاف”، وقد اندثرت حضارتها ولا يعرف مكانها بالضبط الآن، وإنْ كانت هناك آثار حديثة تشير إلى مكانها في المنطقة المذكورة في الجبال، والأحقاف: اسم لسورة كريمة في القرآن الكريم، ومعنى الأحقاف: جبال الرمل، وهي منطقة مُطِلّة على البحر والجبال.
آية ارم ذات العماد
يقول الله تعالى في سورة الفجر أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:
{ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ } الآيات [6-7-8].
من هم ارم ذات العماد ؟
هم قبيلة عاد التي ذكرها الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم.
هي قبيلة عربية من (العرب العاربة).
أعطاهم الله من القوة البدنية وقوة الحضارة والملك، وأنعم عليهم بجنات وعيون وثمار ونعيم وقصور.
وصل بهم الترف إلى أنْ بنوا قصوراً لا حاجة لهم بها، لكنهم طغو وكفروا بالله عز وجل.
قوم عاد أول من عبد الأصنام بعد طوفان نوح عليه السلام، قال تعالى: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنصَرُونَ} [فصلت:15-16 ].
قال الإمام ابن كثير رحمه الله: (وهؤلاء كانوا متمردين عتاة جبّارين خارجين عن طاعته، مكذّبين لرسله، جاحدين لكتبه، فذكر الله تعالى كيف أهلكهم ودمّرهم وجعلهم أحاديث وعبر فقال: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ، إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ}.
وهؤلاء عاد الأولى وهم: من ولد عاد بن إرم بن عوص بن سام بن نوح.
قال ابن إسحاق: وهم الذي بعث الله فيهم رسوله هودًا عليه السلام فكذبوه وخالفوه، فأنجاه الله من بين أظهرهم ومن آمن معه منهم وأهلكهم {بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ} [الحاقة: 8-6].
وقد ذكر الله قصتهم في القرآن في غير موضع؛ ليعتبر البشر بمصرعهم، فقوله تعالى: {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ} [الفجر: 7]، عطف بيان وزيادة تعريف بهم.
قوله تعالى: {ذَاتِ الْعِمَادِ} لأنهم كانوا يسكنون بيوت الشعر التي ترفع بالأعمدة الشداد، وقد كانوا أشد الناس في زمانهم خلقة، وأقواهم بطشًا؛ ولهذا ذكرهم هود بتلك النعمة، وأرشدهم إلى أن يستعملوها في طاعة ربهم الذي خلقهم فقال: { وَاذكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُواْ آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [الأعراف: 69].
تفسير ومعنى إرم ذات العماد
تفسير الطبري
{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبّكَ بِعادٍ إرَمَ} يقول تعالى ذكره لنبيه محمد ﷺ: ألم تنظر يا محمد بعين قلبك، فترى كيف فعل ربك بعاد؟
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: إرَمَ:
فقال بعضهم: هي اسم بلدة، ثم اختلف الذين قالوا ذلك في البلدة التي عُنِيت بذلك، فقال بعضهم: عُنيت به الإسكندرية، وقال بعضهم: هي دمشق.
قال آخرون: عُني بقوله: إرَمَ: أي “أمة”.
وقال آخرون: تلك قبيلة من عاد.
وقال آخرون إرَمَ: الهالك، ومنه أرم بنو فلان أي: هلكوا.
والصواب من القول في ذلكَ: أن يُقال: إنَّ إرم إما بلدة كانت عاد تسكنها، وإما اسم قبيلة.
وقوله: ذاتِ الْعِمادِ، اختلف أهل التأويل في معنى قوله: ذَاتِ الْعِمادِ في هذا الموضع:
فقال بعضهم: معناه ذات الطول، وقالوا: كانوا طوال الأجسام.
وقال بعضهم: بل قيل لهم ذَاتِ الْعِمادِ لأنهم كانوا أهل عَمَد، ينتجِعون الغيوث، وينتقلون إلى الكلإ حيث كان، ثم يرجعون إلى منازلهم.
وقال آخرون: بل قيل ذلك لهم لبناء بناه بعضهم، فشيّد عَمَده، ورفع بناءه.
ارم ذات العماد
تفسير القرطبي
في قوله “إرم”
“إرم” قيل هو سام بن نوح؛ قاله ابن إسحاق.
وروى عطاء عن ابن عباس – وحكى عن ابن إسحاق أيضا – قال: عاد بن إرم، فإرم على هذا أبو عاد، وعاد بن إرم بن عوص بن سام بن نوح.
وعلى القول الأول: هو اسم جد عاد، قال ابن إسحاق: كان سام بن نوح له أولاد، إرم بن سام، وأرفخشذ بن سام، فمن ولد إرم بن سام العمالقة والفراعنة والجبابرة والملوك الطغاة والعصاة.
وقال مجاهد: “إرم” أمة من الأمم.
قال قتادة: هي قبيلة من عاد.
وقيل: هما عادان: فالأولى هي إرم، قال اللّه عز وجل: “وأنه أهلك عادا الأولى” [سورة النجم: 50]، فقيل لعقب عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح: عاد؛ كما يقال لبني هاشم: هاشم. ثم قيل للأولين منهم: عاد الأولى، وإرم: تسمية لهم باسم جدهم. ولمن بعدهم: عاد الأخيرة.
وقال معمر: “إرم”: إليه مجمع عاد وثمود، وكان يقال: عاد إرم، وعاد ثمود، وكانت القبائل تنتسب إلى إرم.
أما قوله “ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد”
قال ابن عباس في رواية عطاء: كان الرجل منهم طوله خمسمائة ذراع، والقصير منهم طول ثلاثمائة ذراع بذراع نفسه، قال ابن العربي: وهو باطل، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: (خلق الله آدم وطوله ستون ذراعاً، فلم يزل الخلق ينقص حتى الآن) [البخاري -3336] و [مسلم -7092].
وزعم قتادة: أن طول الرجل منهم اثنا عشر ذراعاً.
قال أبو عبيدة: “ذات العماد” ذات الطول.
وعن قتادة أيضا: كانوا عمادا لقومهم؛ يقال: فلان عميد القوم وعمودهم: أي سيدهم.
وعنه أيضا: قيل لهم ذلك، لأنهم كانوا ينتقلون بأبياتهم للانتجاع، وكانوا أهل خيام وأعمدة.
Tags:
قصص دينية